المبادرة المغربية للحكم الذاتي في ضوء القانون الدولي: منطلقات سيادية ورؤية متقدمة لحل النزاعات الترابية والمساهمة في تعزيز السلم والاستقرار في إفريقيا

  الدكتور مولاي بوبكر حمداني

رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية

السيدات والسادة الحضور الكريم، كلٌّ باسمه وسمته وصفته، مع وافر التقدير والاحترام لشخصه الكريم،

أسعد اليوم ويشرفني أيما تشريف مشاركتكم في أشغال هذه الندوة الوطنية “قضية الوحدة الترابية للمملكة من شرعية التاريخ الى رهانات المستقبل” المنعقدة في رحاب مدينة العيون، هذه المدينة التي لا تُشكل مجرد نقطة جغرافية على الخريطة، بل هي قلب ينبض بالتنمية والأمل، وبوابة المغرب الاستراتيجية نحو عمقه الإفريقي، وتجسيد حي لمصداقية المقاربة المغربية الشاملة في التنمية المتوازنة والتعاون البنّاء جنوب-جنوب، وهي المقاربة التي سطر معالمها ورسخ دعائمها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.

 ولابد أن نشكر القائمين على تنظيم هذا الندوة الوطنية على حسن التنظيم والاستقبال كما نشكرهم على انتقاء مثل هذا الموضوع لما له من اهمية فائقة وبعد واجب الشكر أقول انني سوف أتناول في مداخلتي اليوم موضوعًا يقع في صميم التقاطعات الجدلية للقانون الدولي المعاصر، وفقه تسوية النزاعات، ونظريات أشكال الدول، وهو: المبادرة المغربية للحكم الذاتي في ضوء القانون الدولي: منطلقات سيادية ورؤية متقدمة لحل النزاعات الترابية والمساهمة في تعزيز السلم والاستقرار في إفريقيا.

إن مفهوم “الحكم الذاتي”، الذي يمثل حجر الزاوية في هذا الطرح، قد شكّل على مر العقود مجالاً خصباً للاجتهاد الفقهي والجدل المفاهيمي، ففي أدبيات القانون الدولي المقارن، يُعرَّف الحكم الذاتي في أبسط صوره، بأنه تلك السلطة القانونية التي تُمكِّن جماعة معينة، ذات خصوصية إثنية أو لغوية أو جغرافية، من أن تتمتع بشخصية اعتبارية قانونية خاصة، وتدير شؤونها الداخلية عبر مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية خاصة بها، وذلك ضمن الإطار السيادي للدولة الأم.

 بيد أن هذا التقعيد الأولي لا يلبث أن يفتح الباب أمام إشكاليات نظرية جوهرية: فمثلا أين تقع الحدود الفاصلة بين الحكم الذاتي كشكل من أشكال اللامركزية السياسية المتقدمة وباقي اشكال التدبير المحلي أو الاداري؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن الدستوري الدقيق بين الحق في الإدارة الذاتية، الذي يُعد شكلاً من أشكال “تقرير المصير التوافقي الداخلي” وبين مبدأي سيادة الدولة ووحدتها الترابية، وهما من المبادئ الراسخة التي يقوم عليها النظام الدولي برمته؟

حضرات السيدات والسادة

لقد مرّ مفهوم الحكم الذاتي بتحولات دلالية كبرى، فبعد أن كان يُنظر إليه في حقبة ماضية، خاصة في سياق ما بعد الاستعمار، بريبة شديدة، باعتباره مقدمة حتمية للانفصال أو “منحدرًا زلقًا” يهدد مبدأ (الحفاظ على الحدود الموروثة)، أصبح اليوم، لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة وصعود سياسات الهوية، يُعتبر أداة متقدمة وفعالة في هندسة السلام وإدارة التنوع في المجتمعات المركبة، فهو لم يعد مجرد خيار ثانوي، بل نهج مفضل في القانون الدولي لتسوية النزاعات ذات الخصوصيات الجغرافية والثقافية والإثنية، التي لا تجد لها حلاً في الأطر الكلاسيكية.

ومن هذا المنطلق ، ننتقل الآن لنتناول حالة دراسية تجسد هذا التطور المفاهيمي والعملي بامتياز، ألا وهي “المبادرة المغربية للتفاوض بشأن نظام للحكم الذاتي لجهة الصحراء”، فهذه المبادرة التي قدمتها المملكة المغربية عام 2007 لا تمثل مجرد مقترح سياسي ظرفي، بل هي صرح قانوني متكامل يستجيب للدعوات المتكررة لمجلس الأمن الدولي لإيجاد “حل سياسي، واقعي، عادل، دائم ومبني على التوافق”، ويقدم رؤية حديثة لحل نزاع طال أمده، عبر آلية ديمقراطية تهدف إلى تحقيق توليفة خلاقة بين تطلعات السكان المحليين ومتطلبات السيادة الوطنية.

ولفهم العمق الاستراتيجي لهذه المبادرة وأصالتها التشريعية، لا بد من وضعها في حوار مقارن مع أبرز الممارسات الفضلى والنماذج الدولية الرائدة، فهذا الحوار النقدي ليس غاية في ذاته، بل وسيلة تكشف لنا كيف أن المبادرة المغربية استلهمت من حكمة هذه التجارب، لكنها في الوقت نفسه قدمت حلولاً مبتكرة تتناسب مع الخصوصية التاريخية والجيوسياسية للقضية مما يجعلها نموذجًا جديرا بالدراسة.

فإذا انطلقنا من الأساس القانوني والإطار السيادي نجد أن المبادرة المغربية ترتكز على رؤية متوازنة ومتكاملة؛ فهي من جهة حل سياسي يستجيب لمتطلبات الشرعية الدولية، ويضع نفسه ضمن منطوق وقرارات مجلس الأمن، ومن جهة أخرى تؤكد بشكل قاطع وجازم على أن هذا الحل يندرج ضمن سيادة المملكة ووحدتها الترابية الوطنية، التي لا تقبل المساومة أو التجزئة، هذا التوازن الدقيق، الذي يُقترح تفعيله عبر استشارة ديمقراطية للسكان المعنيين بموجب (المادة 27)، ، ثم تحصينه في المبادرة عبر تعديل دستوري يدمجه في المنظومة القانونية للمملكة، مما يضعها في قلب الممارسات الدستورية الحديثة التي تسعى للتوفيق بين الالتزامات الدولية والسيادة الوطنية.

وبداية في نظرة سريعة على بعض التجارب الدولية للحكم الذاتي نجد حالة جزر آلاند الفنلندية التي أسست حكمها الذاتي على ضمانة دولية مصدرها قرار من عصبة الأمم عام 1921 أرسيت بموجبه مبادئ أساسية لا تزال قائمة حتى اليوم، وهذه الضمانة منحت نظام الحكم الذاتي في آلاند حصانة شبه مطلقة، حيث لا يمكن للبرلمان الفنلندي تعديل قانونه الأساسي دون موافقة صريحة من برلمان آلاند المحلي، كما أن وضع الإقليم كمنطقة منزوعة السلاح ومحايدة هو التزام دولي على فنلندا، مما يجعل من هذا النموذج حالة خاصة جدًا في القانون الدولي.

وإن اتجهنا شمالًا إلى مقاطعة بولزانو أو جنوب تِيرُول الإيطالية (ألتو أديجي)، نرى أن شرعيتها مستمدة من اتفاق ثنائي ذي بعد دولي، وهو اتفاق “غروبر-دي غاسبيري” الملحق بمعاهدة السلام بباريس عام 1947، هذا الاتفاق جعل من النمسا هي “الدولة الام”  (l’Etat-parent)  أو “الدولة الحامية” لحقوق الأقلية الناطقة بالألمانية، حيث مُنحت فيينا حق التدخل دبلوماسيًا لدى روما لضمان احترام وتطبيق بنود الحكم الذاتي، هذا النموذج يوضح كيف يمكن لاتفاق دولي أن يكون هو الضامن لاستقرار حكم ذاتي داخلي.

أما في الجارة الشمالية إسبانيا، فالأساس هو دستوري داخلي بحت، يجسده دستور 1978 الذي يعتبر تحفة في الهندسة الدستورية، فالمادة الثانية منه توازن ببراعة بين “الوحدة غير القابلة للتجزئة للأمة الإسبانية”، وبين “الاعتراف وضمان الحق في الحكم الذاتي للقوميات والأقاليم” التي تتكون منها، هذا النظام، المعروف بـ “دولة الجهات المستقلة” هو نظام مفتوح وغير متماثل (Autonomie asymétrique)، سمح بتطور نماذج حكم ذاتي غير متماثلة في عمقها و متفاوتة في صلاحياتها، فالدولة في هذا النظام تضع “القانون الإطار” أو “القواعد الأساسية” في مجالات مثل الصحة والتعليم، وتقوم الجهات خاصة التاريخية منها ككتالونيا والباسك، بتطوير هذه القواعد تشريعيًا وتنفيذها بما يتناسب مع خصوصياتها.

وعبر الأطلسي نجد كيبيك الكندية تخضع لنظام ضمن بنية فيدرالية أصيلة حيث السيادة مقسمة دستوريًا منذ نشأة الاتحاد الكندي بموجب “قانون أمريكا الشمالية البريطانية” لعام 1867، فالمقاطعات ومنها كيبيك، ليست كيانات مُنحت سلطات من المركز، بل هي كيانات ذات سيادة أصلية في مجالات اختصاصها المحددة دستوريًا، وتشارك في تعديل الدستور الفيدرالي.

وأخيرًا في المملكة المتحدة، نجد نظام “التفويض” أو ما يعرف بنظام “الصلاحيات المحجوزة أو المحفوظة”، الذي يقوم على مبدأ السيادة البرلمانية المطلقة لبرلمان ويست منستر، فبرلمانات اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية لا تمتلك سيادة أصلية، بل سلطات “مُفوضة” من المركز الذي يحتفظ نظريًا بالقدرة على تعديل أو سحب هذه السلطات، مما يجعل هذا النظام أكثر مرونة سياسيا، ولكنه أقل تحصينًا دستوريًا من الفيدرالية.

من خلال المقارنة بين النماذج السابقة والمبادرة المغربية نجدها هذه الأخيرة نقدم لنا صيغة توفيقية تجمع بين الشرعية الدولية المطلوبة لحل النزاع، وبين السيادة الوطنية المطلقة كضمانة للاستقرار والوحدة، مما يتجاوز إشكالية “الضمانة الخارجية” ويؤسس لحل وطني ذي مصداقية دولية.

فبالحديث عن جوهر الحكم الذاتي، أي توزيع الاختصاصات، نلاحظ أن المبادرة المغربية تتبنى منهجًا واضحًا، فبينما تحتفظ الدولة بالاختصاصات السيادية التقليدية (المادة 14)، التي تشمل مقومات السيادة والدفاع والأمن الخارجي والعلاقات الخارجية والاختصاصات الدستورية والدينية للملك والنظام القضائي للمملكة، تُمنح الجهة صلاحيات واسعة في كافة المجالات التي تمس الحياة اليومية للمواطنين بموجب (المادة 12) نذكر منها الإدارة المحلية والشرطة المحلية، التنمية الاقتصادية (تخطيط، استثمار، تجارة، صناعة، سياحة، فلاحة)، ميزانية الجهة ونظامها الجبائي، البنى التحتية المحلية (ماء، كهرباء، نقل…)، الشؤون الاجتماعية (سكن، تعليم، صحة، تشغيل…)، التنمية الثقافية (خاصة التراث الحساني)، البيئة…وغيرها، مع اعتماد “مبدأ التفريع” كآلية مرنة لتوزيع الاختصاصات غير المحددة صراحةً في المستقبل، وبالمقابل نجد جنوب تيرول بإيطاليا تتميز باستقلالية مالية هائلة حيث تحتفظ بنسبة 90% من معظم الضرائب المحصلة محليًا مما يمول صلاحياتها الواسعة، في حين أن كيبك كسائر المقاطعات الكندية لديها سلطة فرض ضرائب مباشرة بالتوازي مع الحكومة الفيدرالية مما يضمن لها موارد مالية كبيرة، أما في المملكة المتحدة فرغم منح اسكتلندا صلاحيات لتحديد معدلات الضريبة على الدخل إلا أن معظم الموارد لا تزال تأتي من منحة سنوية من ويست منستر، وتظل موارد حيوية مثل النفط والغاز تحت السيطرة المركزية.

وبمقارنة مع النموذج الإسباني نجد أن هذا الاخير يرتكز بالأساس على “مبدأ اللامماثلة”، حيث تعتمد معظم الجهات على نظام تحويلات مركزي، باستثناء بلاد الباسك ونافارا اللتين تتمتعان بنظام “فورال” خاص يسمح لهما بجمع الضرائب وتحويل حصة للمركز، وهكذا نلاحظ أن كل الجهات لا تتمتع بنفس المستوى من الصلاحيات، فإقليم كتالونيا، على سبيل المثال، وبصفته “قومية تاريخية”، يتمتع بصلاحيات واسعة جدًا تشمل امتلاكه لنظام قانون مدني خاص به ومستقل عن القانون المدني الإسباني العام، ولغة رسمية (الكتالونية) هي لغة الإدارة والتعليم، وقوة شرطة جهوية كاملة الصلاحيات هي “الموسوس ديسكوادرا”، أما اذا ما رصدنا تجربة إقليم الباسك، فنجدها تتميز بخصوصية فريدة على الإطلاق، وهي نظامه المالي الخاص المعروف بـ “الكونسيرتو إيكونوميكو” (Concierto Económico)، وهو نظام مالي استثنائي يعود إلى حقوق تاريخية “الامتيازات” (fueros)، حيث يقوم الإقليم بجمع كل الضرائب تقريبًا بنفسه (باستثناء الرسوم الجمركية)، ثم يحول “حصة “متفق عليها “إل كوبو ” el cupo” إلى الدولة المركزية مقابل الخدمات التي لا يقدمها الإقليم (مثل الدفاع والعلاقات الخارجية)، مما يمنحه استقلالية مالية شبه كاملة، بالإضافة إلى قوة شرطته الخاصة “الإرتزاينتزا”، وعلى صعيد آخر، نجد إقليم الأندلس الذي، رغم عدم كونه “قومية تاريخية” بالمعنى نفسه، الا أنه حصل على حكم ذاتي واسع عبر مسار تشريعي سريع بفضل الإرادة الشعبية القوية التي عبر عنها في استفتاء، مما يبرهن على مرونة النظام الإسباني وقدرته على التكيف مع المطالب المختلفة.

أما على مستوى الهندسة المؤسساتية فالمبادرة لا تكتفي بإنشاء الهيكل الثلاثي الكلاسيكي (برلمان، حكومة، قضاء)، بل تُدخل عليه ابتكارين في غاية الأهمية، الأول، هو مراعاة البنية السوسيولوجية للمنطقة عبر الإشارة إلى تمثيل “مختلف القبائل الصحراوية” في البرلمان الجهوي، مما يضمن أن الديمقراطية التمثيلية لن تكون مجرد آلية سياسية شكلية، بل ستكون متجذرة في الواقع المحلي وتعكس تركيبته الاجتماعية من مختلف التشكيلات الاجتماعية الصحراوية ومن مجموع سكان الجهة عبر الاقتراع العام المباشر وبما يضمن نسبة ملائمة للنساء (المادة 19)، والثاني وهو ابتكار مؤسسي ذكي، يتمثل في دمج وظيفتي “رئيس حكومة الجهة” و”ممثل الدولة” في شخص واحد هو رئيس الحكومة الذي ينتخبه البرلمان الجهوي وينصبه الملك (المادة 20)، هذا الدمج المباشر يتجاوز الازدواجية التي نراها في نماذج أخرى، مثل إسبانيا التي تفصل بين “رئيس الجهة” ومنصب “مندوب الحكومة” المركزي، مما قد يخلق توترات مؤسسية، المقترح المغربي بهذا الشكل يعزز التنسيق والانسجام ويجعل من رئيس الحكومة المحلية شريكًا كاملاً في تنفيذ سياسات الدولة.

حضرات السيدات والسادة

اسمحوا لي أن أتوقف أيضا عند نقطتين اساسيتين تبرزان العمق الاستراتيجي الحقيقي للمبادرة المغربية:

النقطة الأولى هي التفويض الأمني (Décentralisation de la sécurité)، فبينما كان تفويض الصلاحيات الأمنية في العديد من الدول عملية تدريجية ومعقدة، ومحفوفة بالمخاطر السياسية، فإن المبادرة المغربية تقترح منذ اليوم الأول، وبشكل صريح في المادة 12، تنص على إنشاء “شرطة محلية” تحت سلطة الجهة، وهذه خطوة جريئة تدل على درجة عالية من الثقة واستعداد لمنح حكم ذاتي حقيقي وفعال، وهذا يضع المقترح في مصاف النماذج الأكثر تقدمًا في العالم، مثل كيبك التي تمتلك “شرطة المقاطعة” (Sûreté du Québec)، أو إقليم الباسك بشرطته “الإرتزاينتزا”، أو حالة اسكتلندا التي لديها قوة شرطة خاصة تسمى (Police Scotland)  ومسؤولة أمام برلمانها في هوليرود.

والنقطة الثانية، ولعلها الأكثر أهمية وجوهرية هي إدارة الموارد الطبيعية ففي عالم غالبًا ما تكون فيه الثروات سببًا للنزاع والتناحر فيما يوصف ب “لعنة الموارد”، فإن المبادرة المغربية تقدم حلاً مبتكرًا وتحوليًا، فالمادة 13 تنص بوضوح وصراحة لا نظير لهما في معظم النماذج المقارنة، على أن “العائدات المتأتية من استغلال الموارد الطبيعية، تُرصد للجهة”، هذا ليس مجرد إجراء مالي، بل هو ضمانة اقتصادية وسياسية قوية، تؤكد أن التنمية ستكون محلية ومستدامة، وأن ثروة المنطقة ستكون في خدمة سكانها أولاً وأخيرًا، هذا الطرح يتجاوز حتى نماذج متقدمة مثل اسكتلندا، حيث تذهب عائدات نفط بحر الشمال إلى الخزينة المركزية في لندن، وهو ما يظل نقطة خلاف سياسي دائم ومحركًا أساسيًا للخطاب القومي الاسكتلندي، من هنا يكون المقترح المغربي يحسم هذه المسألة بشكل استباقي وواعد، محولاً الموارد من مصدر نزاع محتمل إلى أداة للتنمية والرخاء المشترك.

اهم الخلاصات

أولا: الحكم الذاتي يعتبر آلية لتكريس السيادة لا لتقويضها

تأسيساً على ما سبق ذكره نستنج انه اذا كان مبدأ سيادة الدول ووحدتها الترابية يُعد حجر الزاوية في ميثاق الأمم المتحدة والنظام الدولي برمته فإن المبادرة المغربية للحكم الذاتي ليست، بأي حال من الأحوال، تنازلاً عن السيادة، بل هي ممارسة متقدمة لهذه السيادة، فالسيادة في مفهومها الحديث لم تعد مرادفة للجمود أو المركزية المطلقة، بل أضحت تعني قدرة الدولة على تكييف هياكلها الداخلية بمرونة وابتكار، بما يضمن وحدتها واستقرارها على المدى الطويل، ومن هذا المنطلق، تشكل المبادرة المغربية منطلقًا سياديًا من عدة وجوه:

  1. التأطير ضمن السيادة الوطنية: لقد حرصت المبادرة، في نصوصها الصريحة (المادة 2)، على التأكيد بأن نظام الحكم الذاتي سيُطبق “في إطار سيادة المملكة ووحدتها الترابية الوطنية”، هذا التأطير المسبق يقطع الطريق أمام أي تفسير قد يذهب باتجاه الانفصال، ويضع الحل ضمن إطار وطني غير قابل للتجزئة فالدولة المغربية بممارستها لحقها السيادي في تنظيم شؤونها الداخلية هي التي تقترح هذا الحل وتضمنه.
  2. الاحتفاظ بالاختصاصات السيادية: المادة 14 من المبادرة تحدد بشكل قاطع الاختصاصات التي تظل حكرًا على الدولة المركزية، وهي تشمل مقومات السيادة (العلم، العملة، النشيد الوطني)، المقومات المرتبطة بالاختصاصات الدستورية والدينية للملك، بصفته أمير المؤمنين والضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية وللحريات الفردية والجماعية، الأمن الوطني والدفاع الخارجي والوحدة الترابية، والعلاقات الخارجية، والنظام القضائي للمملكة ، هذا التقسيم الواضح للسلطات هو سمة من سمات أكثر نماذج الحكم الذاتي نضجًا في العالم، حيث يُنظر إلى الدولة المركزية ليس كخصم للجهة، بل كضامن لاستقرارها وحامي لكيانها.
  3. إصدار الأحكام “باسم الملك: حيث انه حتى في عمق اللامركزية القضائية المقترحة بإنشاء “محكمة عليا جهوية” كأعلى هيئة قضائية للجهة، دون الإخلال باختصاصات المجلس الأعلى والمجلس الدستوري للمملكة (المواد 22-23)، فان المبادرة تنص على أن المحاكم الجهوية للبت في المنازعات المتعلقة بقوانين الجهة ستصدر أحكامها “باسم الملك”، هذه الإشارة رغم رمزيتها ولكنها ذات الدلالة القانونية العميقة، تؤكد أن العدالة وإن كانت تُطبق محليًا، فإن مصدرها ومنبع شرعيتها يظل واحدًا وموحدًا، وهو رأس الدولة ورمز وحدتها.

وعليه، نخلص الى أن المملكة المغربية بتقديمها للحكم الذاتي، لا تُضعف سيادتها، بل على العكس، تعيد تعريفها بشكل ديناميكي، وتبرهن على أن الدولة القوية هي تلك التي تمتلك الثقة الكافية لمنح سلطات واسعة لأقاليمها، مع الحفاظ على جوهر الوحدة الوطنية.

ثانياً: المبادرة كرؤية متقدمة في فقه تسوية النزاعات

إن وصف المبادرة بـ الرؤية المتقدمة لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى كونها تتجاوز المقاربات الكلاسيكية لحل النزاعات، التي غالبًا ما كانت تتأرجح بين خيارين متطرفين: إما الاستيعاب القسري أو الانفصال، فالمبادرة المغربية تقدم طريقًا ثالثًا، وهو التكامل ضمن التنوع، وتتجلى هذه الرؤية المتقدمة في عدة جوانب:

  1. الانتقال من منطق “تقرير المصير الخارجي” إلى “تقرير المصير الداخلي التوافقي: حيث أن مفهوم “حق تقرير المصير” تطور في القانون الدولي المعاصر فبعد أن كان مرتبطًا حصرًا بإنهاء الاستعمار (تقرير المصير الخارجي)، أصبح الفقه والممارسة الدوليان يركزان بشكل متزايد على “تقرير المصير الداخلي” كحل للنزاعات داخل الدول القائمة، وهذا يعني تمكين مجموعة سكانية معينة من ممارسة حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بحرية داخل حدود الدولة القائمة، والمبادرة المغربية هي التجسيد العملي لهذا المفهوم المتقدم، حيث تقترح استفتاءً للسكان (المادة 27) لاختيار حكم ذاتي موسع ضمن السيادة المغربية، مما يمثل ممارسة حرة وديمقراطية لحقهم في تقرير المصير الداخلي.
  2. تبني مبدأ “ عدم التماثل البنّاء:(Asymétrie) فبدلاً من فرض نموذج موحد على كامل التراب الوطني، يمكن أن تعتمد المبادرة مبدأ ” اللامتماثلة الايجابية”، أي تصميم حل خاص ومفصل لمنطقة ذات خصوصية تاريخية وسياسية، وهو النهج الذي نجح في دول مركبة مثل إسبانيا والمملكة المتحدة، حيث يسمح بمعالجة المطالب المحددة لمنطقة ما دون الحاجة إلى تغيير بنية الدولة بأكملها، وبالتالي فهي رؤية براغماتية تعترف بالخصوصية دون المساس بالوحدة.
  3. التركيز على التنمية كأداة للسلام: تتجاوز المبادرة الإطار السياسي الضيق لتركز بشكل كبير على البعد الاقتصادي، فالنص الصريح في المادة 13 على أن “العائدات المتأتية من استغلال الموارد الطبيعية، تُرصد للجهة” هو ليس مجرد بند مالي بل هو فلسفة حكم، هذه الفلسفة تقوم على مبدأ أن السلام المستدام لا يمكن بناؤه على التسويات السياسية فحسب، بل يجب أن يرتكز على تنمية حقيقية وملموسة تعود بالنفع المباشر على السكان المحليين، وتمنحهم السيطرة على مستقبلهم الاقتصادي، وبهذا تقدم المبادرة رؤية تحول الموارد من مصدر محتمل للنزاع إلى محرك للرخاء والاستقرار.

ثالثاً: المساهمة في تعزيز السلم والاستقرار في إفريقيا

إن الأثر الإيجابي للمبادرة المغربية لا يقتصر على حل نزاع إقليمي واحد، بل يمتد ليشكل نموذجًا قابلاً للاستلهام، قد يساهم في إعادة تشكيل مقاربة القارة الإفريقية للنزاعات الترابية والإثنية، وذلك من خلال:

  1. ترسيخ ثقافة الحلول السياسية والتوافقية: تقدم المبادرة المغربية نفسها كـ “مبادرة للتفاوض”، وهي بذلك تكرس ثقافة الحوار والحلول السياسية القائمة على التوافق “رابح -رابح”، بدلاً من منطق “الرابح والخاسر” الذي يميز الحلول العسكرية أو المفروضة، وبالتالي فإن هذه الفلسفة التوافقية هي ما تحتاج إليه القارة الإفريقية للخروج من دوامة النزاعات التي لا تنتهي.
  2. تقديم بديل واقعي للانفصال: حيث تعاني القارة الإفريقية من العديد من الحركات الانفصالية التي تهدد بتفتيت الدول القائمة، وزعزعة استقرار أقاليم بأكملها، وفتح الباب أمام حروب أهلية مدمرة، وفي هذا السياق تقدم المبادرة المغربية نموذجًا عمليًا وواقعيًا يبرهن على أنه يمكن تلبية تطلعات الخصوصيات المحلية والإقليمية دون اللجوء إلى الانفصال، وبالتالي فنجاح هذا النموذج من شأنه أن يقدم للدول الإفريقية الأخرى التي تواجه تحديات مماثلة، أداة فعالة لإدارة تنوعها والحفاظ على وحدتها الترابية، وهو ما ينسجم تمامًا مع المبادئ التأسيسية للاتحاد الإفريقي، خاصة مبدأ احترام الحدود الموروثة غداة الاستقلال.
  3. مكافحة “البلقنة” وتعزيز التكامل الإقليمي: لا شك إن منطق الانفصال يؤدي حتمًا إلى “بلقنة” القارة، أي تحويلها إلى كيانات صغيرة، ضعيفة، ومتناحرة، مما يجعلها فريسة سهلة للتدخلات الخارجية ويقوض أي أمل في تحقيق التكامل الإقليمي، وعلى النقيض من ذلك فإن منطق الحكم الذاتي الذي تقترحه المبادرة هو منطق تكاملي، فبدلاً من إقامة حدود جديدة وعوائق إضافية، يهدف إلى خلق فضاء من التعاون والازدهار، وهكذا فإن حل النزاع حول الصحراء عبر الحكم الذاتي سيمهد الطريق لاستئناف بناء اتحاد المغرب الكبير، وتحرير الطاقات والموارد الهائلة التي يستنزفها هذا النزاع، وتوجيهها نحو التنمية ومكافحة التحديات المشتركة كالإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، والجريمة المنظمة، والتغيرات المناخية.

السيدات والسادة،

ختامًا، يتضح لنا أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي، في ضوء القانون الدولي والممارسة المقارنة، هي بالفعل منطلق سيادي يعزز وحدة الدولة ولا ينتقص منها، ورؤية متقدمة تتجاوز المقاربات التقليدية في حل النزاعات وبالتالي فهي ليست مجرد استنساخ لتجربة أخرى أو تجميع انتقائي لمواد متفرقة بل هي بناء قانوني وسياسي أصيل ومبتكر، يستلهم من الممارسات الفضلي للتجارب الدولية الناجحة، وتتحدث لغة القانون الدولي المعاصر، لكنها لا تتردد في تكييفها وتطويرها لتقدم حلولاً خاصة ومصممة بدقة لسياق فريد، فهي بذلك مبادرة تجسد التطور الإيجابي لمفهوم الحكم الذاتي، وتقدم برهانًا عمليًا على أنه يمكن الموازنة بين متطلبات السيادة الوطنية والتطلعات المحلية، وبين ضرورات الشرعية الدولية والواقعية السياسية، مما يجعلها ليست فقط حلاً لنزاع إقليمي، بل نموذجًا ملهمًا للحكم الرشيد في القرن الحادي والعشرين، ومشروع استراتيجي قادر على الإسهام بفعالية في تعزيز السلم والاستقرار ليس فقط في منطقة شمال إفريقيا، بل في القارة الإفريقية بأكملها، وهي بذلك دعوة صريحة للانتقال من عصر النزاعات الموروثة إلى عصر البناء المشترك والرخاء المتقاسم.

ومرة أخرى لا يسعني الا ان اجدد شكري للقائمين على هذا المنتدى المرموق على كل المستويات على الجهد المبذول والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى