السياسة… بين شرف المسؤولية وفتنة الكراسي

ع.مشواري
تعد السياسة في أصلها ميدانا نبيلا، يمارسه من يحمل في قلبه هم الوطن، لا من يتخذها وسيلة لتحقيق المصالح الخاصة. فهي مسؤولية لا وجاهة، وأمانة لا غنيمة، ورسالة غايتها خدمة الصالح العام، لا اقتسام النفوذ أو المكاسب.
غير أن المشهد السياسي المحلي، للأسف، لم يعد يعكس تلك الصورة المثالية التي تحدثت عنها كتب القانون الدستوري. فقد تحول المنصب العام لدى بعض الفاعلين إلى غاية في ذاته، لا وسيلة للإصلاح والتنمية. وصار الكرسي عند البعض رمزا للمكانة، لا منبرا لخدمة الناس.
ولعل اللافت أن بعض الوجوه التي دخلت المجالس المحلية في السنوات الأخيرة لا تمتلك بالضرورة خبرة في التسيير أو دراية بتفاصيل الشأن العام، لكنها وجدت في السياسة فرصة لتجربة أدوار جديدة ومواقع مؤثرة. وهي ظاهرة تعبر عن انفتاح الحياة السياسية على شرائح مختلفة من المجتمع، لكنها تثير في المقابل تساؤلات حول معايير الكفاءة والتأهيل.
لقد أصبحت بعض المجالس المحلية أشبه بمختبر سياسي تجرب فيه الخطابات والوعود الانتخابية، أكثر مما تناقش فيه البرامج والسياسات. ومع ذلك، تظل المشاركة السياسية حقا مكفولا للجميع، شرط أن تمارس بروح المسؤولية والالتزام بالمصلحة العامة.
لكن الإشكال الحقيقي يبدأ حين يتحول المنصب إلى غاية في ذاته، ويصاب البعض بما يمكن وصفه بـ”متلازمة الكرسي”، فينشغل بتثبيت موقعه بدل خدمة من انتخبه. وهنا يفقد العمل السياسي معناه، ويتراجع مبدأ التداول والمساءلة الذي يفترض أن يقوم عليه النظام الديمقراطي.
كما برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة أخرى لا تقل إثارة، تتمثل في عدد من الذين دخلوا مجالس المقاطعات لأول مرة كمستشارين أو رؤساء، فاستساغوا طعم المنصب واستعذبوا امتيازاته، حتى دفعهم الطموح إلى البحث عن مقاعد تحت قبة البرلمان. وهكذا تحول العمل المحلي من مجال لخدمة المواطنين إلى محطة عبور نحو مواقع أكبر، وكأن الهدف لم يعد خدمة الشأن العام بقدر ما أصبح السعي وراء الكرسي ذاته.
إن فتنة المنصب قد تكون أشد من فتنة المال، فهي تغري صاحبها بالبقاء وتقنعه بأن الوطن لا يسير من دونه. وهكذا تتحول السياسة إلى مشهد مكرر تتبدل فيه الشعارات أكثر مما تتبدل الوجوه، وتعاد الوعود ذاتها في كل دورة انتخابية.
ورغم كل ما يعتري الساحة من ضبابية، لا تزال هناك أصوات عاقلة تؤمن بأن السياسة أخلاق قبل أن تكون مهنة، وأن المنصب تكليف قبل أن يكون تشريفا. أولئك هم من يعيدون الثقة في أن “السياسي الشريف” لم ينقرض بعد.
لقد آن الأوان لإعادة تعريف السياسة لا كمصدر رزق أو سلطة، بل كعقد أخلاقي بين المنتخب والمجتمع، قوامه النزاهة والشفافية والمساءلة. فالأوطان لا تبنى بالشعارات ولا تدار بالمصادفة، بل بالعقول الواعية والضمائر الحية التي تدرك أن الكرسي – مهما ارتفع – يبقى في النهاية مقعدا من خشب.





