برقية ترامب إلى المغرب: تكريس للموقف الأمريكي الثابت من السيادة المغربية على الصحراء وملامح التسوية النهائية للملف

الدكتور مولاي بوبكر حمداني
رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية
لطالما شكلت المراسلات الرسمية بين الدول أدوات أساسية لتوثيق وتأكيد السياسات الخارجية، وفي عالم الدبلوماسية غالبًا ما تحمل الرسائل الرسمية بين قادة الدول أبعادًا تتجاوز الكلمات والمجاملات لتعكس المواقف السياسية وتؤكد على التحالفات، وترسم ملامح التوجهات المستقبلية.
وفي هذا الصدد لم تكن البرقية التي وجهها الرئيس الأمريكي، دونالد ج. ترامب إلى العاهل المغربي، الملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش استثناءً من هذه القاعدة بل على العكس كانت هذه الرسالة بمثابة تكثيف لواحد من أهم التحولات في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة شمال إفريقيا منذ عقود إلا وهو الاعتراف بسيادة المغرب على كامل تراب صحرائه، وتثبيت هذا الموقف كعقيدة راسخة في صلب العلاقات الثنائية.
إن قراءة هذه البرقية لا يقتصر على فهم اللحظة التي أُرسلت فيها، بل يتطلب الغوص في أعماق تاريخ طويل من العلاقات المتميزة، وتفكيك الأبعاد الاستراتيجية التي تجعل من الشراكة بين الرباط وواشنطن حجر زاوية للأمن والاستقرار الإقليمي، حيث لا تجسد كلمات ترامب حول دعم مقترح الحكم الذاتي باعتباره “جادًا وذا مصداقية وواقعيًا، والأساس الوحيد لتسوية عادلة ودائمة” مجرد تكرار لموقف سابق، بل جاءت كتأكيد على أن هذا القرار لم يكن مرحلة عابرة لإدارة راحلة، وإنما هو أساس متين تُبنى عليه فصول جديدة من التعاون، وتعبيرًا عن تقدير متواصل لدور المغرب في المنظومة الإقليمية.
المحور الأول: العمق التاريخي للعلاقات الثنائية المغربية-الأمريكية
لا مناص في هذا المقام من التذكير بأن العلاقات المغربية-الأمريكية استندت إلى سوابق تاريخية منحتها خصوصية وصبغة استثنائية، ففي عام 1777 وفي خضم الثورة الأمريكية أصدر السلطان محمد الثالث قرارًا سياديًا بفتح الموانئ المغربية أمام السفن الأمريكية وحمايتها، وهو ما عُد أول اعتراف فعلي من دولة ذات سيادة بالولايات المتحدة الأمريكية الوليدة، وقد تُوّج هذا الاعتراف المبكر بتوقيع معاهدة السلام والصداقة المغربية-الأمريكية في مراكش عام 1786، وهي وثيقة تفاوض عليها عن الجانب الأمريكي كل من توماس جيفرسون وجون آدامز، وظلت هذه المعاهدة سارية المفعول دون انقطاع مما جعلها أطول معاهدة صداقة مستمرة في تاريخ الولايات المتحدة أسست لإطار من الثقة والاحترام المتبادل.
ولم يقتصر هذا التعاون على الإطار الدبلوماسي بل امتد ليشمل مجالات أخرى، حيث احتضنت مدينة طنجة أول بعثة دبلوماسية أمريكية كما أصبحت “المفوضية الأمريكية في طنجة” أول ملكية دبلوماسية تقتنيها الحكومة الأمريكية خارج أراضيها، وهي اليوم معلمة تاريخية ترمز لعمق هذه العلاقات.
وخلال القرن العشرين، تجسد البعد العملي لهذه الشراكة في محطات حاسمة، ففي الحرب العالمية الثانية شكلت الأراضي المغربية مسرحًا لعملية “تورش” في نوفمبر 1942 التي كانت من أولى العمليات العسكرية الأمريكية الكبرى في شمال إفريقيا، وفي يناير 1943 استضافت الدار البيضاء “مؤتمر أنفا” الذي جمع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بحضور السلطان محمد الخامس حيث تم التخطيط للمراحل الحاسمة من الحرب واتخاذ قرار مبدأ استسلام دول المحور دون شروط.
وعقب استقلال المغرب وخلال حقبة الحرب الباردة اتخذت المملكة موقفًا واضحًا بالانحياز إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وترجمت هذا الموقف عمليًا من خلال توقيع اتفاقيات سمحت للولايات المتحدة بإقامة واستخدام قواعد جوية على الأراضي المغربية، مثل قواعد سيدي سليمان وبن جرير والنواصر، التي لعبت دورًا في الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية، كما استضاف المغرب محطة إرسال قوية لإذاعة “صوت أمريكا”.
وبناءً على هذه الشواهد فلم تكن الشراكة وليدة اللحظة بل شكلت هذه الوقائع التاريخية المتتالية رصيدًا تراكميًا من المصالح المشتركة والثقة المتبادلة، وهو ما يفسّر مستوى التعاون المتقدم القائم بين البلدين في مراحل لاحقة.
المحور الثاني: التحول في الموقف السياسي من قضية الصحراء
لقد تطور الموقف الأمريكي من قضية الصحراء، التي نشأت عقب الانسحاب الإسباني عام 1975، عبر مراحل متباينة، وصولًا إلى مرحلة الوضوح الحالية، حيث انه بعد سنوات من دعم جهود الأمم المتحدة لإيجاد “حل سياسي متوافق عليه”، بدأ الموقف الأمريكي يشهد تحولًا تدريجيًا مع تقديم المغرب لمبادرة الحكم الذاتي عام 2007، وهي المبادرة التي وصفتها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، ومن بعدها إدارة الرئيس باراك أوباما بشكل متكرر بأنها “جادة وذات مصداقية وواقعية”. ورغم أن هذا التوصيف كان إيجابيًا إلا أنه ظل يندرج ضمن إطار دبلوماسي حذر لم يحسم الموقف بشكل نهائي لصالح السيادة المغربية وأبقى الباب مفتوحًا من الناحية النظرية أمام خيارات أخرى.
بيد أن الإعلان الرئاسي الصادر في العاشر من ديسمبر 2020 أحدث تغييرًا جوهريًا في هذه المقاربة، حين نص الإعلان صراحةً على اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب الكاملة على منطقة الصحراء، واعتبر أن “قيام دولة صحراوية مستقلة ليس خيارًا واقعيًا لحل النزاع”، والأهم من ذلك أنه أقر بأن “الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية هو الحل الوحيد الممكن”.
ومن ثم فقد جاءت هذه البرقية موضوع التحليل، التي وجهها الرئيس ترامب للعاهل المغربي لتؤكد وتثبت هذا الموقف واصفةً المبادرة المغربية بأنها “الأساس الوحيد من أجل تسوية عادلة ودائمة لهذا النزاع”، حيث يترتب على هذا التحديد الدقيق للموقف نتائج مباشرة ومتعددة الأبعاد.
فعلى الصعيد الدبلوماسي يمنح هذا الموقف دعمًا سياسيًا متواصلاً للمغرب داخل مجلس الأمن الدولي، حيث تضطلع الولايات المتحدة بدور “حاملة القلم” (Penholder) في صياغة القرارات المتعلقة بالنزاع، كما سيشجع هذا القرار دولًا أخرى على أن تحذو حذوها، إما من خلال فتح قنصليات عامة في مدينتي العيون والداخلة، أو عبر إصدار بيانات دعم صريحة لمبادرة الحكم الذاتي.