تونس: قرارات سعيّد الأخيرة تكشف عمق الصراع التاريخي مع اتحاد الشغل

لم تكن القرارات التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيّد منتصف غشت 2025، بإلغاء التفرغ النقابي ومنع الاقتطاع الآلي لاشتراكات أعضاء الاتحاد العام التونسي للشغل، مجرد إجراء إداري عابر، بل اعتبرها كثيرون حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التوترات بين السلطة السياسية وأكبر منظمة نقابية في البلاد. فمنذ تأسيسه سنة 1946، لم يقتصر دور الاتحاد على الدفاع عن حقوق الشغيلة، بل تحول إلى فاعل سياسي واجتماعي مؤثر، حيث لعب أدوارا محورية في دعم الحركات الوطنية ضد الاستعمار، ثم في التوازنات السياسية بعد الاستقلال، وصولا إلى وساطته الحاسمة خلال الأزمة السياسية لسنة 2013 التي نال بسببها جائزة نوبل للسلام ضمن الرباعي الراعي للحوار الوطني. هذا الإرث جعل الاتحاد ينظر إليه ليس فقط كهيكل نقابي، بل كقوة ضاغطة ذات شرعية تاريخية وشعبية يصعب تهميشها.
القرارات الأخيرة تعني عمليا ضربا لمصادر تمويل الاتحاد، إذ يشمل إيقاف الاقتطاع الآلي قرابة مليون منخرط في القطاعين العام والخاص. ورغم أن قيمة الاشتراك الشهري لا تتجاوز دولارا واحدا، إلا أن انتظامه كان يضمن للمنظمة استقرارا ماليا يسمح لها بمواصلة نشاطها. أما إلغاء التفرغ النقابي، فيعد محاولة لتقليص قدرة القيادات النقابية على متابعة الملفات العمالية بصفة يومية، ما يضعف من فاعلية الجهاز النقابي ويحد من حضوره في الميدان.
ويرى مراقبون أن هذه الإجراءات لا يمكن قراءتها فقط من زاوية مالية أو إدارية، بل تحمل دلالات سياسية واضحة، إذ يسعى الرئيس سعيّد إلى إعادة تشكيل المشهد الاجتماعي بما يضعف نفوذ الفاعلين التقليديين. وفي المقابل، يعتبر الاتحاد أن ما يحدث محاولة لتقزيم دوره التاريخي وإقصائه من دائرة التأثير في الشأن العام. وقد جاء رد المنظمة سريعا بالدعوة إلى تنظيم مسيرة وطنية يوم 21 غشت 2025 أمام مقرها المركزي، مع التلويح بخيار الإضراب العام إذا استمرت الحكومة في غلق قنوات الحوار.
الأزمة الحالية تكشف غياب آليات حقيقية للتفاوض بين السلطة التنفيذية والمنظمات الاجتماعية، ففي وقت تحتاج فيه البلاد إلى إصلاحات اقتصادية عميقة، تجد نفسها مندفعة نحو مواجهة مفتوحة قد تزيد من هشاشة الوضع الداخلي وتعمق الاحتقان الشعبي. وما يجري اليوم يذكر بمحطات سابقة من الصراع بين الدولة واتحاد الشغل، بدءا من الخلافات في ستينات القرن الماضي مع الرئيس الحبيب بورقيبة، مرورا بتوترات عهد بن علي، وصولا إلى مرحلة ما بعد الثورة حيث ظل الاتحاد رقما صعبا في كل الأزمات السياسية. وهو ما يجعل الأزمة الراهنة ليست مجرد خلاف ظرفي، بل امتدادا لصراع تاريخي حول من يملك سلطة تحديد ملامح الدولة ومصير المجتمع التونسي.